تخطي للذهاب إلى المحتوى

لفتا: قصَّة قرية فلسطينية أُجبر سكانها على هجرها قٌبيل النكبة

BBC

يولند نيل - بي بي سي  ـ القدس

    1 يونيو/ حزيران 2011التعليق على الصورة،

    يخوض سكان لفتا السابقون معركة للحيلولة دون تحويل قريتهم لمجرَّد مشروح إسكاني فخم.

    على مرمى النظر من أحدث المعالم التي تشمخ وسط مدينة القدس، ينتصب جسر معلَّق أبيض اللون على شكل قيثارة، وهنالك أيضا ثمة أمر آخر يذكِّر بشكل صارخ بماضي المدينة: أطلال عشرات المنازل المتناثرة عبر الوادي الأخضر الوارف الظلال والواقع إلى الغرب من القدس، إنها بقايا وآثار قرية لفتا الفلسطينية.

    قبل عام 1948، أي عام "النكبة" كما يسمِّيه الفلسطينيون ويطلق عليه الإسرائيليون عام "الاستقلال"، أُرغم سكان القرية الـ 3000 على الرحيل من قريتهم هربا من الاقتتال الذي كان قد اندلع فيها في تلك الفترة. ولم يُسمح لهم قطُّ بالعودة إلى منازلهم التي هجروها منذ ذلك الحين.

    معركة قانونية

    أمَّا الآن، فيخوض سكان القرية السابقون معركة قضائية ضارية للحيلولة دون تنفيذ خطط إسرائيلية ترمي إلى تحويل قريتهم المهجورة إلى مشروح إسكاني فخم.

    يقول يعقوب عودة، وهو ناشط فلسطيني يعيش في القدس الشرقية، إنه لا يزال يحتفظ بذكريات حيَّة عن طفولته المثالية التي كان قد أمضاها في لفتا، وهو الآن يرافق مجموعات سياحية يأخذها في جولات لكي تزور القرية.

    يقف عودة وسط قريته القديمة، ويشير بيده إلى المسجد القديم وإلى معصرة الزيتون والباحة التي كانت تشكِّل ذات يوم أمرا أساسيا بالنسبة لحياة مجتمع القرية التقليدي.

    يقول عودة: "لقد وُلدت في لفتا عام 1940، وبالتالي فقد كان عمري ثماني سنوات عندما رحلنا، إلاََّ أنني لن أنسى ذلك أبدا. إنه تاريخي وكل جوارحي وأحاسيسي".

    ذكريات الطفولة

    يأخذ عودة المجموعات السياحية في جولات حول لفتا، وذلك لكي يشرح لهم عن التاريخ الفلسطيني، إذ يقول: "أذكر عندما كنت صغيرا ألهو وألعب في مياه النبع وفي الحدائق، وأجمع كل أنواع النباتات الطبيعية".

    ويمضي عودة بسرد حديث الذكريات والحنين، فيقول: "أتذكَّر أمِّي وكيف كانت تعد لنا الخبز الشهيَّ بزيت الزيتون والزعتر".

    ويضيف: "كانت القرية كأسرة واحدة. ففي موسم الحصاد، وعندما كان أحدهم يقوم بإصلاح بيته أو بترميمه، كان جميع الشبَّان يتبرَّعون للعون والمساعدة. وحتى وقتنا هذا، نذهب جميعنا لأداء واجب العزاء عندما توافي المنية أحدا أبناء لفتا".

    لقد كان سكَّان لفتا من بين ما يُقدَّر عددهم بـ 700 ألف فلسطيني فرّوا من منازلهم وأُجبروا على النزوح عن قريتهم خلال ما يصفه الإسرائيليون بـ "حرب الاستقلال".

    "خراب ودمار"

    وبينما نرى أن بعض البلدات والقرى الفلسطينية السابقة الواقعة في الأراضي التي تُسمَّى اليوم إسرائيل وقد أتى عليها الخراب والدمار، أو أُعيد تطويرها أو تم الاستيلاء عليها، تقف لفتا خالية مهجورة، ولكنها في الوقت نفسه "سليمة لم تمسسها بعد أي يدٍ بأذى".

    إلاَّ أنك تلاحظ أنَّ الحشائش والأزهار والورود البرّية قد غطَّت المنازل والبيوت التي تزيِّن جدرانها خربشات وكتابات، وإن العديد منها لا يزال يحتفظ بأرضياته المزيَّنة بالفسيفساء والزخارف البديعة الجذَّابة.

    وعلى الرغم من أنَّ المنطقة أضحت الآن محاطة بالطرق السريعة، ورغم أنَّ أعمال الإنشاءات والبناء جارية على قدم وساق في منطقة التلال المجاورة، وذلك لشقِّ نفق لبناء خطٍّ جديد للسكك الحديدية، إلاَّ أنَّ الموقع يظلُّ هادئا إلى حد كبير.

    "مجرَّد ذكرى"

    تقول زينة عبد الله، وهي في العشرينيََّات من عمرها وكلا والديهما من قرية لفتا: "إنه مكان جميل. وإنه لأمر يفطر الفؤاد أن يعرف المرء أنَّ هذا المكان قد يصبح ذات يومٍ مجرَّد ذكرى وحسب".

    وتضيف زينة، التي تجوَّلت للمرة الأولى في قرية والديها في رحلة سياحية نظَّمها عودة: "إن اختفت هذه القرية، فلربََّما لن تتمكََّن الأجيال القادمة من تمييز ومعرفة ما الذي كان يوجد لدينا نحن الفلسطينيين في القدس".

    أمَّا سلطة الأراضي في الدولة، وهي الآن المالك "القانوني" للموقع، فتودُّ بيع قطع الأراضي إلى متعهِّدي البناء بعد فرزها وتجهيزها لكي يبنوا عليها منازل جديدة فاخرة، مستفيدين من المباني القديمة التي لا تزال قائمة في مكانها.

    وقد تمَّت في الواقع الموافقة على تلك الفكرة من قبل بلدية القدس، إذ أنَّ هنالك مجسَّما للمشروع المُقترح، وهو معروض داخل قاعة المدينة.

    حلٌّ وسط

    وحول ذلك، يقول نعومي تسور، نائب رئيس بلدية القدس: "الخطَّة هي ترميم المباني القديمة الباقية، والتي لا تزال قائمة في مكانها، إذ سيجري الحفاظ عليها بشكل كامل. إن فنَّ تطوير مثل تلك القرية يتمثَّل بالتوصُّل إلى حلٍّ وسط بين عناصر المكان القديمة والجديدة".

    ويشير المسؤولون الإسرائيليون إلى أن المنطقة "المُختلف عليها ليست قريبة من الأراضي المحتلَّة، وأنه لا يوجد خلاف حول أنََّ لفتا تقع داخل الدولة".

    يقول تسور: "في مرحلة من المراحل في الشرق الأوسط، لا بدَّ من أن نقبل بوجود البعض هنا، ووجود البعض الآخر هناك. وليس بإمكاننا جميعا أن نحلم بالعودة إلى المكان الذي كنَّا فيه من قبل، لأن الأشياء تغيَّرت ومضت إلى الأمام".

    وفي الدولة، هنالك ثمَّة شعورا على نطاق واسع بأن السماح، وكبادرة حُسن نيَّة، بعودة ولو عدد رمزي من الفلسطينيين إلى الأرض التي كانوا قد غادروها نازحين في عام 1948 قد يخلق "سابقة خطيرة".

    وهنالك خشية من أنه "قد تؤدِّي عودة اللاجئين في نهاية المطاف إلى تقويض الدولة  كدولة يهودية".

    عريضة قانونية

    وتقوم الآن عائلات لفتا ومنظمات المجتمع المدني الإسرائيلية بتقديم عريضة قانونية لتجميد مشروع تطوير القرية، إذ يقترحون الإبقاء عليها على وضعها الراهن باعتبارها موقعا تاريخيا.

    وقد طلب الشهر الماضي أحد القضاة في المحكمة المركزية في القدس من مصلحة الأراضي إعادة النظر بخطط تطوير قرية لفتا، وأعطى الدائرة المذكورة مهلة أقصاها الخامس من شهر يونيو/حزيران الجاري للرد على طلبه.

    أمَّا المحامي سامي ارشيد، فيقول: "سكان لفتا السابقون مدركون تماما بأنَّهم لن يتمكَّنوا من العودة إلى منازلهم في ظلِِّ الوضع السياسي الراهن، لكنَّهم سيسعون بكافة السبل القانونية الممكنة لمنع أي إمكانية بأن يسكن في بيوتهم أناس آخرون غيرهم".

    حل مستقبلي

    ويضيف: "هم يعتقدون أن ذلك سيمنع التوصُّل إلى أي حلٍّ مستقبلي لقضية اللاجئين".

    ويردف ارشيد قائلا: "الأمر الآخر هو الحفاظ على القرية كموقع للذكرى. هذا أمرٌ هامٌّ بالنسبة لهم، ليسوا كلاجئين، أو كفلسطينيين، بل كأشخاص منتشرين في شتَّى أصقاع الكون".

    ومن تحت الحجج القانونية تلك يستحضر لنا مصير لفتا بعضا من أكثر النقاط الشائكة والمثيرة للجدل في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: أي قضة حقُّ العودة والصراع للسيطرة على السرد التاريخي للمنطقة.